شارع المعز

سواء في مصر أو على مستوى العالم ككل تشكل "الشوارع" مصدر مدد لإبداعات ثقافة المكان كما هو الحال في كتاب جديد عن "الشوارع المكسيكية الساحرة" اشترك فيه مصور فوتوغرافي صاحب كاميرا مبدعة وكاتب صاحب إلهامات في عالم السرد ببلاده.

وهذا الكتاب المصور لاليكس ويب والفارو انريجي يعبر عن أنشودة حب للمصور والكاتب لوطنهما ومع أن المصور ويب يوصف في بلاده بأنه "سيد الألوان الباذخة" فقد عمد أيضا في صور هذا الكتاب للاستفادة من الظلال ليبدع مشاهد مكسيكية ما بين النور والعتمة ويخلد رحلة بالكاميرا استمرت 30 عاما في شوارع المكسيك .

ويقول الكاتب الفارو انريجي إن الصور التي اصطفاها المصور الفوتوغرافي المبدع اليكس ويب أطلقت سراح ذكرياته الدفينة حتى أنه مضى يكشف النقاب لأبنائه عن ذكرياته الحميمة في شوارع وأماكن عانقها هذا المصور بعين الكاميرا التي تجاوبت مع عينه المبدعة.

في مثل هذه المواقف الشعورية المشحونة بالوجد والحنين قد تكون شجرة ما لها ذكريات حميمة جدا عند شخص ما كما هو الحال مع الكاتب الفارو انريجي الذي عاش سنوات طويلة بعيدا عن شارع كان مسقط رأسه وعندما تأمل الصور التي التقطها اليكس ويب لهذا الشارع اكتسب المزيد من المعاني لذاته وللمكان.

فالشوارع لها ذاكرتها بل إن المرء قد يلوذ بطريق ما أو شارع بعينه في لحظات استثنائية بحثا عن الآمان وصفاء التفكير أما دور السينما والمسارح فهي مشحونة بكثير من المعاني التي تتجاوز بكثير أبنيتها المادية خاصة إذا كانت هذه المسارح أو دور السينما قد أغلقت أو هدمت بينما تبقى شاخصة في ذاكرة روادها.

ولئن قال شيخ الصوفية الأكبر محيي الدين بن عربي ان الزمان مكان سائل والمكان زمان متجمد" فكثير من الأعمال الابداعية تصدر عن حنين إلى الزمان أو المكان أو إليهما معا.

وما كان الكتاب الجديد عن الشوارع المكسيكية الساحرة إلا محاولة للسير فوق ذلك الجسر المسمى الحنين إلي عوالم مكانية وزمانية وهو ما يتجلى أيضا في إبداعات أدبية مثل روايات الأديب المصري النوبلي نجيب محفوظ الذي كان من عشاق القاهرة وخاصة الأحياء التي عاش بها وتوالت في أعماله ومن بينها ثلاثيته الشهيرة وهو صاحب مقولة :"المكان الذي يعشقه الكاتب يكتب عنه".

والشوارع المصرية المغزولة بذكريات النيل والنخيل كلمات منقوشة في قلوب المصريين بقدر ما تمنح الذكريات صوتها الشجي والطيف الجميل وصولجان النشوة عند استعادة لحظات عزيزة ووجوه حبيبة من البعد السحيق وكأنها شهادة ميلاد متجدد للحضور الذي يشكل الماضي جزءا لايتجزأ منه مهما كان تراكم الأحداث والزحام !.

ولئن كانت منطقة "كاليه فيينا" باسمها المثير للفضول هي المنطقة التي شكلت شوارعها الهادئة ملاعب الصبا في مكسيكو سيتي للكاتب الفارو انريجي المنتمي للطبقة الوسطى المكسيكية فان الملحن المصري الراحل امام عيسى الشهير "بالشيخ امام" عرف سحر المكان الذي يتجسد عنده في منطقة "حوش قدم" الشعبية بالقاهرة المعزية.

ورغم أنه ولد في بلدة "أبو النمرس" بمحافظة الجيزة ، قال الشيخ إمام عيسى عن "حوش قدم" التي دخلها لأول مرة عام 1935:بمجرد أن دخلتها روحي أنست إليها وأحببتها فعلا كما لو أني مولود بها.

والشيخ إمام الذي ولد في الثاني من يوليو عام 1918 وقضى في السابع من يونيو عام 1995 واقترن اسمه بالشاعر الراحل احمد فؤاد نجم ضمن كيان ثقافي فني فريد بات يعرف "بكيان إمام/نجم" دخل منطقة حوش قدم في البداية كقاريء للقرآن الكريم في البيوت والحوانيت.

وغير بعيد عن هذا المكان القاهري الحميم يقع شارع المعز الذي شهد مؤخرا "كرنفالا جماعيا" في إطار المهرجان الدولي للطبول والفنون التراثية حيث تبارت إيقاعات نحو 30 فرقة من شتى أنحاء العالم في موكب بهي من بوابة الفتوح وحتى مسجد السلطان قلاوون فيما كان لشارع المعز أن يردد رسالة السلام التي حملتها هذه الاحتفالية الثقافية الفنية الدولية وان يستعيد في المشهد المبهر وجوها لطالما وقعت في عشق المكان مثل الشيح إمام ورفيق دربه الشاعر احمد فؤاد نجم الذي قضى يوم الثالث من ديسمبر عام 2013.

وعن بداية اللقاء مع الشيخ امام ، قال الشاعر أحمد فؤاد نجم الذي ولد يوم الثالث والعشرين من شهر مايو عام 1929 ببلدة "ابو نجم" التابعة لبلدة "ابو حماد" في محافظة الشرقية : "كان ذلك في عام 1962 وفي يوم جمعة" ، موضحا انه كان يسكن حينئذ في منطقة بولاق الدكرور فلما التقى الشيخ امام لم يعد بعدها لهذه المنطقة ليستمر معه في غرفته بحوش قدم فيما باتت هذه الغرفة مقصد العديد من المثقفين المصريين والعرب.

وكان الشيخ امام قد لفت إلى أن الشاعر احمد فؤاد نجم ابتدع بعض الكلمات في قصائده بعد ان التقطها من شوارع وأزقة الحي القديم بالقاهرة المعزية كما أن أغلب ألحانه كانت وسط الحي الذي يسكنه فيما قال إن "بيتنا بحوش قدم كان يأتيه الزوار من كل البلاد العربية" فقد وصف الغرفة التي كان يسكنها مع رفيق دربه احمد فؤاد نجم ومعهما الفنان التلقائي محمد علي بأنها حجرة "لا تزيد عن مترين في متر ونصف".

ومنطقة "الغورية" التي تحوي "حوش قدم" في قاهرة المعز هي منطقة شعبية عريقة وعاش فيها أعلام للموسيقى العربية مثل الشيخ زكريا أحمد فيما كان الشيخ درويش الحريري يقطن في الجوار في حي "التبانة" بمنطقة "الدرب الأحمر" واختار عملاق آخر من عمالقة النغم العربي هو الشيخ أبو العلا محمد منطقة "بولاق أبو العلا" ليعيش فيها ويتجول بين شوارعها وأزقتها العتيقة.